مفهوم "النظرية
والتجربة"
انجاز ذ. هشام عزيزة
تقديم:
على مستوى الدلالة اللغوية يحيل لفظ النظرية إلى العقل، في حين يرتبط مفهوم
التجربة بالواقع، أما على مستوى الدلالة اليونانية فلفظ Théorie في اللسان الفرنسي يرجع
في أصله اليوناني إلى كلمة theoreinويعني لفظ النظرية كما جاء في معجم روبير "هي مجموعة من الأفكار
والمفاهيم المجردة المنظمة قليلا أو كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص". وفي
معنى ثان النظرية "بناء عقلي منظم ذو طابع فرضي تركيبي".
أما من حيث الدلالة الفلسفية فيشير لفظ النظرية كما جاء في المعجم الفلسفي
لأندري لالاند بأنها " إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ".
أما مفهوم التجربة فيشير على مستوى الدلالة اللغوية
إذا كانت النظرية هي مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة المنظمة قليلا أو
كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص، فما مصدر المعرفة العلمية؟ بتعبير آخر هل تقوم المعرفة العلمية على التجربة فقط أم أن للعقل دورا في
تشكيلها؟
المحور
الأول: التجربة والتجريب
إشكال المحور : إذا كانت النظرية هي
مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة المنظمة قليلا أو كثيرا، والمطبقة على ميدان
مخصوص، فما مصدر المعرفة العلمية؟ بتعبير آخر هل تقوم المعرفة العلمية على التجربة
فقط أم أن للعقل دورا في تشكيلها؟
موقف
كلود برنار : التجربة أساس ومصدر المعرفة
العلمية
يؤكد كلود برنار أن التجربة هي أساس ومصدر المعرفة العلمية، وذلك من خلال اتباع خطوات المنهج
التجريبي الذي يبدأ في نظر كلود برنار بمعاينة الظاهرة المدروسة معاينة شاملة، معتبرا أن ملاحظة الظاهرة تتم بدون فكرة
مسبقة، وبعدها تولد في ذهن العالم فكرة تبعا للملاحظة) الفرضية(،
وللتحقق من صحة أو عدم صحة الفرضية يقوم العالم بالتجربة، وتنتج عن التجربة
ظواهر جديدة عليه أن يلاحظها )القانون العلمي.(
فقد لاحظ كلود برنار
أن بول الأرانب يشبه بول الحيوانات اللاحمة، فافترض أنها لم تذق الطعام منذ مدة
طويلة، وأنها بفعل الامساك الطويل عن الأكل أصبح نظامها الغذائي -رغم كونها حيوانا عاشبا-
مشابها للنظام الغذائي للحيوانات اللاحمة، وللتحقق من هذه الفرضية، قام كلود برنار
بالتجربة حيت قدم لها عشبا، فلاحظ أن بولها عاد إلى طبيعته، بحيث أصبح مشابها لبول
الحيوانات العاشبة، ثم
أخضعت نفس الأرانب للإمساك عن الطعام، وبعد مرور أربع وعشرين ساعة أصبح نظامها
الغذائي مشابها لنظام الحيوانات اللاحمة، وكرر هذه التجربة على الخيول قصد تعميمها فحصل على
نفس النتائج، فاستنتج كقانون علمي يتسم بالكونية
والشمولية أن الحيوانات العاشبة عند إمساكها عن الطعام يصبح بولها مشابها لبول
الحيوانات اللاحمة.
موقف
روني طوم: ضرورة
إدماج عنصر الخيال العقلي باعتباره
تجربة ذهنية مكملة
للتجربة الواقعية.
يعتبر روني طوم أن ظاهرة ما تكون علمية إذا
كانت تثير اهتماما قد يكون تطبيقيا عمليا أو نظريا من جهة، وكذا إذا كانت قابلة لإعادة الصنع في أزمنة وأمكنة مختلفة من جهة ثانية. كما انتقد التجريب الذي يهدف حسب التصور التقليدي إلى التحقق من صحة أو صدق فرضية ما، معتبرا أن الفرضية تحيل بشكل أو بأخر إلى النظرية، ف"لا وجود لفرضية بدون وجود شكل من أشكال
النظرية"، وبهذا المعنى فإن النظرية تتضمن عناصر خيالية يتم التسليم بوجودها . ليخلص في النهاية إلى أن
الاعتقاد مع فرنسيس بيكون بان التجريب وحده كافٍ للتحليل السببي لظاهرة ما هو
اعتقاد وهمي، ذلك أن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف أسباب
الظواهر، مما يعني أن التجريب
بمعناه التقليدي غير كافٍ لوحده، وهنا يؤكد على ضرورة إكمال الواقعي بالخيالي، معتبرا أن
الخيالي بمثابة "عملية ذهنية" أو "تجربة ذهنية" يستعصي
تعويضها بأي جهاز آلي، وهذا ما جعل روني طوم يؤكد على ضرورة
إدماج عنصر الخيال العقلي باعتباره تجربة ذهنية مكملة للتجربة الواقعية، كما لا ينبغي للتجريب
أن يستغني عن التفكير لكي يحقق درجة العلمية، والتفكير في نظره
"عملية صعبة تفلت من كل رتابة ومن كل منهج".
المحور
الثاني: العقلانية العلمية
إشكال المحور : إذا كانت النظرية هي
مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة المنظمة قليلا أو كثيرا، والمطبقة على ميدان
مخصوص، فما مصدر المعرفة العلمية؟ بتعبير آخر هل تقوم المعرفة العلمية على التجربة
فقط أم أن للعقل دورا في تشكيلها؟
موقف ألبير إنشتاين: العقل أساس المعرفة العلمية
يستهل إنشتاين نصه بالتساؤل عن دور العقل في بناء المعرفة العلمية، معتبرا أن "العقل يمنح النسق بنيته؛ أما معطيات التجربة وعلاقاتها المتبادلة
فيجب أن تطابق بدقة نتائج النظرية"، مما يعني أن العقل في نظره هو أساس المعرفة العلمية، وقد حصر إنشتاين دور التجربة في مطابقتها للنتائج المتوصل إليها عن طريق
العقل، فالتجربة في نظره يمكن "أن ترشدنا في اختيار المفاهيم الرياضية التي
سنستعملها، إلا أنها لا يمكن أن تكون هي المنبع الذي تصدر عنه"، فإذا كانت التجربة
قادرة على استيعاب الفيزياء الكلاسيكية، فإنها على خلاف ذلك تظل عاجزة أمام مجال الميكروفيزياء التي تتناول
اللامتناهي في الصغر (الذرة على سبيل المثال)، وفي السياق نفسه اعتبر هايزنبرغ[1] أنه لا يمكن حساب سرعة
دوران الإلكترون حول النواة وتحديد مكان تواجده في نفس الوقت، وكل ذلك يدل على عجز
التجربة على فهم الفيزياء المعاصرة، مما يعني في نظر
إنشتاين "أن الفكر الخالص قادر على فهم الواقع".
موقف غاستون باشلار :
إذا كان الاتجاه العقلاني يعتبر أن العقل هو
المصدر الوحيد لبناء المعرفة العلمية، وكان الاتجاه التجريبي يعتبر أن العقل صفحة
بيضاء، وبالتالي فإن التجربة هي الاساس الوحيد للمعرفة العلمية، فإن غاستون باشلار على خلاف ذلك، يؤكد على ضرورة
الدخول في حوار فلسفي بين كل من العالم العقلاني والعالم التجريبي قصد تأسيس
العلوم الفيزيائية، معتبرا
أنه "لا توجد عقلانية فارغة كما لا توجد اختبارية عمياء"، مما يعني أن الفيزياء المعاصرة تقوم في نظره على
يقين مزدوج، يتمثل اليقين الأول في اعتبار أن الواقع يوجد في قبضة ما هو عقلي، مما يعني أن الواقع يبنى
عن طريق العقل وليس واقعا معطى عن طريق الحواس، بينما يتمثل اليقين الثاني في كون الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة هي من صميم لحظات
التجربة، معتبرا أن هذا اليقين المزدوج لا يمكن أن يتحقق
إلا من خلال حوار جدلي بين ما هو عقلاني وما هو تجريبي،
ذلك أن العقلانية لا
تتشكل "داخل وعي معزول عن الواقع".